سمير بوزيد يكتب : المخطط الاستراتيجي لرئاسة النيابة العامة 2026-2029 خطوة أساسية لتعزيز حقوق الإنسان   

كيف يمكن أن تتغير علاقة المواطن بدولته إذا تحول الحق في العدالة والمحاسبة إلى واقع يومي وليس مجرد شعار؟ وهل تكفي الخطط الوطنية لإعادة الثقة المفقودة بين الناس ومؤسساتهم، عبر ضمان حقوق الإنسان ومحاربة الفساد بكل حزم؟ هذه الأسئلة ليست مجرد أطروحات نظرية، بل هي جوهر العمل الذي يحتضنه المخطط الاستراتيجي 2026-2029، والذي أراه فرصة تاريخية وملحة لإحداث نقلة نوعية في مجال العدالة والحوكمة الرشيدة.

في هذا السياق، يرتكز المخطط على تعزيز الضمانات القانونية والدستورية التي تكفل حماية الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين، مع اهتمام خاص بالفئات الهشة كالنساء والأطفال وذوي الإعاقة. وقد حرص المخطط، كما هو واضح في وثائقه الرسمية، على تحديث التشريعات الوطنية وربطها بالمعايير الدولية، إضافة إلى نشر ثقافة حقوق الإنسان وتعزيز وعي المواطنين بها. لكن حماية الحقوق لا يمكن أن تتحقق دون استمرارية في تطبيق هذه القوانين ومتابعة دقيقة للانتهاكات، إذ يتطلب ذلك إرادة سياسية قوية وفعالة تلتزم بتحقيق المساواة والعدالة الفعلية.

وقد أظهرت تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وتجاوبًا مع ملاحظات المجتمع المدني، استمرار وجود اختلالات مالية وإدارية تعيق التنمية وتشكل عبئًا على الاقتصاد الوطني. ففي تقرير 2025، سجل ارتفاع حالات الفساد في بعض القطاعات الحساسة، مع بطء في إحالة ملفات الفساد إلى الجهات القضائية. وهذا الواقع يؤكد أن مكافحة الفساد تحتاج إلى تركيز أكبر على تفعيل مؤسسات الرقابة وتعزيز الشفافية، مع ضمان استقلالية الأجهزة القضائية ودعم المجتمع المدني والإعلام المستقل للقيام بدورهما الرقابي والمساند.

غير أن المخطط، بالرغم من النقاط الإيجابية التي يحتويها، يواجه عدة تحديات تنفيذية. فالمخطط يتمتع برؤية شاملة ومتعددة الأبعاد تجمع بين تطوير الموارد البشرية، الرقمنة المتقدمة للإجراءات القضائية، وآليات تقييم الأداء التي تسهم في تحسين نوعية الخدمات القضائية. كما يوفر آليات للتنسيق الجهوي عبر إنشاء مجلس الوكلاء العامين، وهو ما يضيف بعدًا تنظيميًا جديدًا. ولكن البطء في تنفيذ الإصلاحات، والتفاوت في جاهزية المؤسسات، وارتباط بعض القطاعات بالبيروقراطية والمقاومة للتغيير، بالرغم من توفر الموارد الاستراتيجية، يشكل عائقًا أمام الإنجاز السريع.

في هذا الصدد، يعبّر المؤيدون عن تفاؤلهم بالمخطط معتبرين أنه يمثل خارطة طريق واضحة لإصلاح العدالة ومحاربة الفساد، ويشيدون بالمبادرات التي تركز على تحديث المنظومة القضائية وتعزيز الشفافية، حيث يرون أن الأمثلة العملية والإيجابية مثل تسريع معالجة الشكايات القضائية وترشيد الاعتقال الاحتياطي تُثبت جدوى ما يطرحه المخطط. لكن المعارضين يعبرون عن تخوفهم من أن يبقى المخطط على الورق بسبب بطء التنفيذ والمقاومة داخل بعض المؤسسات، فضلاً عن نقص الموارد والاعتمادات المالية وإجراءات تدبير غير مرنة. فهم يرون أن غياب إرادة سياسية صارمة ومتابعة حقيقية قد يحول دون تحقيق الأهداف المعلنة، مما يعمّق الإحباط الشعبي. في الوقت ذاته، ينادي المحايدون بضرورة اتباع نهج متزن، مؤكدين أهمية وضع آليات تقييم صارمة ومتابعة موضوعية لتعزيز الشفافية، مع ضرورة توسيع مشاركة المجتمع المدني والإعلام المستقل من أجل ضمان الرقابة المتواصلة. هم يرون أن التفاؤل وحده لا يكفي، ويتطلب العمل الجاد والمشاركة الفعلية لكل الأطراف.

وفي إطار التواصُل بين الجهات الرسمية والمجتمع المدني، برزت أهمية اللقاء التواصلي الذي أشرف عليه السيد هشام البلاوي، الوكيل العام للملك ورئيس النيابة العامة، حيث أكد خلاله على ضرورة تحسين جودة استقبال المواطنين، تجويد الخدمات، وتقوية الاستقلال القضائي، مع تفعيل نظام التعاقد وتقييم الأداء بين النيابة العامة ومسؤوليها القضائيين، إضافة إلى إحداث مجلس الوكلاء العامين كهيئة للتنسيق الجهوي. وقد جاء هذا التجاوب متناغمًا مع التوجيهات الملكية السامية، التي تركز على استقلالية القضاء وتعزيز الثقة في العدالة، وهو ما يشكل دعامة أساسية لإنجاح المخطط. كما يلعب المجتمع المدني دورًا حيويًا في مراقبة الأداء الحكومي وكشف التجاوزات، وفي تكريس دور الإعلام الحر، كما أكدت على ذلك العديد من تقارير المؤسسات الحقوقية الوطنية. وهكذا، فإن نجاح المخطط يعتمد على تعبير المجتمع المدني عن رأيه وتعبئة شاملة لكل الفاعلين.

وقد ظهرت من خلال التطبيق العملي بعض الأمثلة الإيجابية التي يمكن البناء عليها، من بينها تسريع معالجة الشكايات القضائية عبر الرقمنة، مما يعزز ثقة المواطنين في عدالة الإجراءات، وترشيد استخدام الاعتقال الاحتياطي وتفعيل العقوبات البديلة لتخفيف الضغط على السجون، إضافة إلى تحسن كبير في أداء بعض الجماعات الترابية التي استجابت لتوصيات المجلس الأعلى للحسابات. كما أدت الرقمنة في مناطق نموذجية إلى تقليص فرص الفساد الإداري من خلال تتبع إلكتروني لشؤون الموظفين والملفات. وصولًا إلى النتائج المتوقعة، فإن المخطط ينطوي على إمكانية ارتفاع مؤشر ثقة المواطن في مؤسسات العدالة، إلى جانب انخفاض ملموس في مؤشرات الفساد، خاصة مع إحالة ملفات الفساد للقضاء بلا استثناء، وتحقيق تقدم في العدالة المجالية من خلال الجهوية المتقدمة، وتحسين جودة أداء الموارد البشرية عبر برامج التكوين المستمر.

غير أن هناك جوانب مهمة تحتاج إلى تركيز أكبر ضمن جهود الإصلاح. إذ أن تعزيز استقلالية القضاء وحماية القضاة من الضغوطات يشكل حجر الزاوية لضمان إنفاذ القانون الحقيقي. كما يتطلب دور الجهوية المتقدمة تنسيقًا فعليًا بين الجهات الحكومية ورفع كفاءة الجماعات الترابية، وهو أمر لم ينل ما يكفي من الاهتمام. بالإضافة إلى ذلك، فإن تمويل برامج التكوين والتأهيل للقطاع القضائي والإداري يعد ركيزة أساسية لضمان الاستمرارية والجودة، بينما يظل غياب آليات الاستجابة السريعة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية نقطة ضعف تحتاج إلى معالجة.

ومن أجل ذلك، لا بد من تكريس إرادة سياسية قوية ومتابعة حازمة لتفعيل كل الإجراءات الحكومية المتعلقة بمحاربة الفساد وحماية الحقوق، وتحقيق التزام تام بإحالة ملفات الفساد للقضاء سريعًا. كما يجب تمكين المؤسسات الرقابية والهيئات المستقلة من أداء دورها بحرية فعالة، مع توسيع المشاركة المجتمعية ودعم الإعلام المستقل لضمان مراقبة حقيقية وشاملة. ويتطلب الأمر تطوير التشريعات باستمرار، وتفعيل الرقمنة الشاملة للإجراءات الإدارية والقضائية، وترسيخ نظم واضحة للمساءلة والتقييم الدوري.

في الختام، يبلغ الإصلاح الحقيقي ذروته عند تعبئة جميع الفاعلين، إذ أن المخطط الاستراتيجي 2026-2029، مدعومًا بأدوات الرقابة المؤسساتية وبحراك المجتمع المدني، يمثل فرصة مشرقة لإنعاش منظومة العدالة وتعزيز قيم الشفافية والمساواة. ومن دون تضافر الجهود، وتكريس الحكامة الرشيدة، لن تتحقق أهداف التنمية والاجتماع العادل. وهكذا، أدعو الجميع – حكومة، مجتمع مدني، إعلام، ومواطنين – إلى العمل المتواصل والالتزام الجماعي لترجمة هذه الخطة إلى واقع ملموس يحس به كل مواطن يوميًا، لأن مستقبل بلادنا يتوقف على قوة إرادتنا في الإصلاح.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock